سورة الغاشية - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الغاشية)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {هل أتاك حديثُ الغاشيةِ} أي: قد أتاك، والأحسن: أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه، والتشويق إلى استماعه، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد. والغاشية: الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها، من قوله تعالى: {يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ} [العنكبوت: 55] إلخ.
ثم فصّل أحوالَ الناس فيها، فقال: {وجوه يومئذٍ خاشعةٌ}، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: ما أتاني حديثها فما هو؟ فقال: {وجوه يومئذ} أي: يوم إذ غشيت {خاشعة}؛ ذليلة، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان، و{وجوه} متبدأ، سوّغه التنويع، و{خاشعة} خبر، و{عاملة ناصبة}: خبران آخران، أي: تعمل أعمالاً شاقة في النار، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها، وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها، فهي يومئذ ناصبة منها، {تَصلى} أي: تدخل {ناراً حامية}؛ متناهية في الحر مُدداً طويلة، {تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ} أي: من عين ماء متناهية في الحرّ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه، والمراد أصحابها، بدليل قوله: {ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع}، وهو نبت يقال لِرَطْبِه: الشَّبرِق على وزن زِبْرج، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته، وهو الضريع، وهم سمٌّ قاتل، وفي الحديث: «الضريع شيء في النار، أمرُّ من الصبر، وأنتن من الجيفه، وأشد حَرًّا من النار»، وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون منه ويذلّون، ويتضرعون إلى الله تعالى طلباف للخلاص منه. وقال أبو الدرداء والحسن: يقبح اللهُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة، تشبيهاً بأعمالهم الخسيسة في الدنيا، وإنَّ الله تعالى يُرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيُغاثون بالضريع، ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غُصّة، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون، فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من غين آنية شديدة الحر، لا هنيئة ولا مريئة، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، قال تعالى: {فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15]. اهـ. والعذاب ألوان، والمعذّبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم آكلة الضريع.. فلا تناقض.
ولمَّا نزلت هذه الآية؛ قال المشركون: إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع، فنزلت: {لا يُسمن ولا يُغني من جوع} أي: ليس مِن شأنه الإسمان والإشباع، كما هو شأن طعام أهل الدنيا، وأنما هو شيء يضطرون إلى أكله دفعاً لضرورتهم، والعياذ بالله من سخطه.
الإشارة: الغاشية هي الدنيا، غشيت القلوب بظلمات محبتها، ومودتها بحظوظها وشهواتها، وجوه فيها يومئذ خاشعة، بذُلّ طلبها، عاملة بالليل والنهار في تحصيلها، ناصبة في تدبير شؤونها، لا راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت بعُنقه، تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين حر التدبير والاختيار، ليس لطُلابها طعام لقلوبهم وأرواحهم إلاّ من ضريع شبهاتها أو حُرماتها، لا يُسمن القلب عن هزال طلبها، بل كلما زاد منها شيئاً، زاد جوعه إليها، ولا يغني الروح من جوع منها.


يقول الحق جلّ جلاله في بيان حال أهل الجنة، بعد بيان حال أهل النار، ولم يعطفهم عليهم، بل أتى بالجملة استئنافية؛ إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما، فقال: {وجوه يومئذٍ ناعمةٌ} أي: ذات بهجة وحُسن، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطففين: 24]، {لسعيها راضية} أي: لأجل سعيها في الدنيا هي راضية في الآخرة بما أعطاها عليه من الثواب الجسيم، أو: رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب، {في جنةٍ عالية} علو المكان أو المقدار، {لا تسمع فيها لاغية} أي: لغو، أو كلمة ذات لغو، أو نفسٌ لاغية، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم، أو: لا تسمع يا مخاطَب، فيمن بناه للفاعل.
{فيها عين جاريةٌ} أي: عيون كثيرة تجري مياهها، كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14] أي: كل نفس، {فيها سُررٌ مرفوعة} رفيعة السمْك أو المقدار، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم، {وأكواب موضوعة} بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب، {ونمارقُ}؛ وسائد ومرافق {مصفوفة} بعضها إلى جنب بعض، بعضها مسندة، وبعضها مطروحة، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة، وأستند إلى أخرى، {وزرابيّ} أي: بُسُط فاخرة، جمع {زِرْبيَّة}، {مبثوثةٌ}؛ مبسوطة، أو مُفرّقة في المجالس.
ولمّا أنزل الله هذه الآيات وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب، لكثرتها، وطول النمارق كذا، وعرض الزاربيِّ كذا، أنكر المشركون ذلك، وقالوا: كيف يصعد على هذا السرير؟ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط، ولم نشهد ذلك في الدنيا؟! ذكَّرهم الله بقوله: {أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت} طويلة عالية، ثم تبرك حتى تُركب؛ ويحمل عليها، ثم تقوم، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها، أو: أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم، يستعملونها كل حين، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات، في عظم جثتها وشدّة قوتها، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة، كالنوْء بالأوقار الثقيلة، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر، وانقيادها إلى كل صغير وكبير، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها، فتبعتها الناقة إلى فم الغار. وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار، وغير ذلك، والظاهر ما قاله الإمام، وتبعه الطيبي، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية، وأنَّ المخبر بها قادر عليها، فيتوافق العقل والنقل. اهـ. قاله المحشي.
{وإِلى السماء كيف رُفعت} رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك، {وإِلى الجبال} التي ينزلون في أقطارها، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها {كيف نُصبت} نصباً رصيناً، فهي راسخة لا تميل ولا تميد، {وإِلى الإرض كيف سُطحت} سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الجلال: وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة، كما قال أهل الهيئة، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع. اهـ. وفي ابن عرفة، في قوله تعالى: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار...} [الزمر: 5] أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية قال: لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان. اهـ. وفي الأبي: الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان. اهـ.
الإشارة: وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان، لأجل سعيها بالمجاهدة، راضية، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة، في جنة عالية، جنان المعارف، لا تسمع فيها لاغية؛ لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث، كلامهم ذكر وصمتهم فكر، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم، فيها سُرر المقامات مرفوعة، يرتفعون منها إلى المعرفة، وأكواب موضوعة؛ كِيسَان شراب الخمرة، وهي محافل الذكر والمذاكرة، ونمارق مصفوفة، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف، ورموا حِملهم على الحي القيوم، وزرابي مبثوثة؛ بُسط الأنس في محل القدس، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة، فإنَّ الفكرة سِراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهي سير القلب إلى حضرة الرب، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت فإنه تجلي غريب، وإلى السماء كيف رُفعت به، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته، وقال: القشيري: الإبل: النفوس الأمّارة، لقوله عليه السلام: «الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة» ه وإلى الأرواح كيف رُفعت؛ لأنها محل أفكار العارفين، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى، والشريعة من الحقيقة، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت، حيث استولت عليها الروحانية، وتصرفت فيها.


يقول الحق جلّ جلاله: {فَذَكِّر} الناس بالأدلة العقلية والنقلية، {إنما أنت مُذكِّّر} ليس عليك إلاَّ التبليغ {لستَ عليهم بمصيطرٍ}؛ بمسلط، كقوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} [قَ: 45]، وفيه لغات: السين، وهي الأصل، والصاد، والإشمام. {إِلاَّ مَن تولَّى وكَفَرَ فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر}، الاستثناء منقطع، أي: لست بمُسلط عليهم، تقهرهم على الإيمان، لكن مَن تولى وكفر، فإنَّ لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر، وهو عذاب جهنم، وقيل: متصل من قوله: {فذكر} أي: فذَكِّر إلاَّ مَن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى، فاستحق العذاب الأكبر، وما بينها اعتراض.
{إِنَّ إِلينا إِيابهم}؛ رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف: التشديد في الوعيد، وأنَّ إيابهم ليس إلاَّ للجبّار المقتدر على الانتقام، {ثم إِنَّ علينا حسابهم} فنُحاسبهم على أعمالهم، ونجازيهم جزاء أمثالهم، وعلى لتأكيد الوعيد لا للوجوب، إذ لا يجب على الله شيء. وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم، باعتبار معنى {من}، وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها، و {ثم} للتراخي في الرتبة لا في الزمان، فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم. انظر أبا السعود.
الإشارة: ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير، ومَن تولَّى منهم يُعذَّب بعذاب الفرق والحجاب وسوء الحساب. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.